السبت، 18 أبريل 2020

أجاممنون


 من المرهق أن تكون الإبن الأوحد لوالديك..
تثقل كاهلك مسؤولية الآمال العظيمة التي يعلقانها عليك..
أخي الأكبر -حكت لي والدتي- مات بعد شهر ونيف من ولادته.. فجعت والدتي وأغشي عليها من المرض، وبكى أبي بعلو صوته في حقل السمسم حتى جفلت الطيور.. لم ينصبوا له عزاء.. شاركت النسوة أمي مصابها الجلل، وواسينها بأن أخي طير من طيور الجنة.. الحاجة "سكينة" ذكرتها بفضيلة الصبر والتجلد والرضا بالمقسوم، وأن الله ما أخذ إلا ليعطي.. فجئت أنا للدنيا بعد عدة سنوات تعويضاً لهما عن طول صبر وإحتساب..
إنتشر الخبر حتى القرى البعيدة.. ذبح أبي ثوراً كبيراً، ذكر إسم الله عليه ثلاثاً وهو يوجهه ناحية القبلة.. وزع لحمه على المصلين وبيوت الحي والزوار من القرى المجاورة.. شيخ عبدالله إمام المسجد دعا لي أن أكون إبناً صالحاً باراً، وقرأ القرآن على رأسي.. وزغردت النساء.. سمتني أمي تيمناً بحلمها بالرجل الصالح في الجلباب الأبيض، زارها مناماً في أيام حملها الأخيرة، سقاها لبناً وأطعمها زبيباً من الحجاز، وأخبرها أنها سترزق بإبن بار سيكون ذو شأن، إسمه "مازن"، من المزن والسحاب المغتص بالماء..
عاملتني بحرص عظيم منذ ميلادي..
أكبر كل يوم وأطوي المراحل.. أرى فرحة أمي في عينيها وتلاشي قلقها ببطء عبر سنوات فجيعتها الأولى، أسمع دعواتها تلاحقني كل يوم عند خروجي للمدرسة "حصنتك بالذي لا يضر مع إسمه شئ في الأرض ولا في السماء".. ويتكرر تبرم أبي من حرصها الزائد، يؤكد لها أنها ستفسد تربيتي.. يقسو علي حيناً ويحدثني بخشونة حيناً، ليعلمني أن أكون رجلاً..
في العصر يأخذني أبي إلى صالون الحلاقة حيث نادي لعب الورق.. وفي مواسم الزراعة والحصاد أمتطي ظهره وهو يحني قامته في أرض الحقل، أو يُعمِل المنجل في حصاد المحصول.. في أيام الجمعة عقب الصلاة، يصطحبني للسوق ليعلمني المساومة في شراء بضاعة الدكان.. فبعد أن أحيل للصالح العام عاد مع أمي للقرية وتفرغ للعمل بالدكان جل وقته.. يجلسني على حجره كل مساء ليحدثني عن حياته قديماً كما لو كنت نداً.. أصدقاء المدرسة، زملاء دفعة الشرطة في الخرطوم، ومغامرات الصبا عندما سرق نعجة البلولة، ويوم تسابق مع الجيلي والطاهر في عبور الترعة سباحة، وقصة زواجه من أمي، وشوقه الدائم لزيارة بيت الله الحرام قبل أن يلقى الله..
كنت صغيراً، لا أفقه ما يقول.. أصغي لصوت صراصير الحقل من بعيد في خلفية حديثه.. أحمل حلوى المصاصة المفضلة لدي، وأنظر إلى قسمات وجهه المتعب وصوته المبحوح، تنتفخ أوداجه فخراً عندما يعرفني بزبائن الدكان..
"ولدي الوحيد.. ورث ملامح أمه"..
"ماشاء الله.. ربنا يحفظه"..
أدرك من وهج عينيه اللامعتين وقتها، أنه يعلق في كاهلي آمالاً عريضة..

مات أبي في غرة رمضان.. صلوا على الجنازة عصراً ونصبوا سرادق العزاء لسبعة أيام.. إتشحت أمي بالسواد أربعين يوماً.. ولم تخلعه من يومها.. أجلسني خالي على حجره وقال لي "من اليوم أنت رجل البيت"..
أطوي المراحل بلا كلل ويشتد عودي.. تحشرج صوتي، ونبتت شعيرات شاربي لتؤذن ببدء رجولتي، وتطوي صفحة طفولتي وصباي.. إلا ما تشبثت به ذاكرتي..
تحققت نبوءة الرجل الصالح بالجلباب الأبيض، نجحت في إمتحان الشهادة الثانوية وأذاعوا إسمي في الإذاعة مع أوائل المتفوقين في عموم البلاد.. بكت أمي في ثيابها المتشحة بالسواد.. خالي هلل كثيراً وكبر الله، وذبح ثوراً كبيراً فرق لحمه على الزائرين والمهنئين..
زرت قبر أبي ليلاً وأسررت له بخبر نجاحي.. تخيلت قسمات وجهه المتعبة تستريح أخيراً، وسمعت صوته المبحوح يهنئني وقد إزداد فخراً.. جلست بجوار قبره أسامره عن طموحي في دراسة الطب، وأستعيد معه مغامرات صباه يوم سرق نعجة البلولة، وتسابق مع الجيلي والطاهر في عبور الترعة سباحة، وقصة زواجه من أمي..
قرأت لروحه سورة يس، وودعته عندما إعتلى القمر السماء وسكنت القرية..

الاثنين، 10 يونيو 2019

هيبنوسيس




لقد انكشف السر أخيرا..


كنت تعيش في كذبة يا صاحبي..

كذبة مريحة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب..

لكن روحك كانت تتقيح صديد ماض حاولت ونجحت في تناسيه ودفنه في أعمق أعماق اللاشعور لديك..

آثرت أن تتحاشى الحقيقة وتعيش الكذبة..

لكنك كنت تدرك دوماً أن شيء ما ليس على ما يرام..

إنه الفضول الإنساني القاتل..

وقد كان آدم فضوليا لهذا طُرد من الجنة..

وأنت يا صاحبي فضولي كالقطط..

أنت قصدتني وطلبت الحقيقة، ولم تعلم أن الحقيقة ستسمم روحك وتزلزل كيانك وايمانك بالله..

أنت طلبت الحقيقة وأردت أن يُرفع الستار..

فلا تلمني..

أجاممنون

  من المرهق أن تكون الإبن الأوحد لوالديك.. تثقل كاهلك مسؤولية الآمال العظيمة التي يعلقانها عليك.. أخي الأكبر -حكت لي والدتي- مات بعد ...